قراءات وحكايات من تاريخ الاندلس

نبدأ في هذا العدد سلسلة من الحلقات نجمعها في قراءات وحكايات من تاريخنا الأندلسي، نقدمها للقاريء العربي ليس تأريخيا بقدر ما هي عبارة عن جولة نقوم بها في ربوع بلاد الأندلس ونقلّب صفحات كتب التاريخ مع المتابعة لعدد من الكتب والدراسات الأكاديمية التي تناولت أزهى عصور حضارتنا العربية الإسلامية في هذه الديار التي ما تزال شاهدة على ابداعات الإنسان العربي والمسلم…

الأندلس .. ديار الأندلس .. بلاد الأندلس: أطلق  هذا اللفظ والاسم على كامل شبه جزيرة أيبر يا كلها بما فيها البرتغال للدلالة على إسبانية الإسلامية التي ظهرت في مطلع القرن السابع الميلادي حتى نهاية القرن الثاني عشر، إلى أن اقتصر هذا اللفظ  والاسم على مملكة غرناطة الصغيرة حتى نهاية القرن الرابع عشر  الميلادي .. أي  بمعنى أخذ هذا اللفظ يقل بمدلوله الجغرافي تبعا للأوضاع السياسية التي كانت عليها الدولة الإسلامية في شبه الجزيرة الايبرية ..  وتاريخنا الأندلسي ارتبط ارتباطا وثيقًا بالبر المغربي الذي اثر وتأثر وسجل في طي صفحاته المشرقة أروع الأحداث والوقائع وأجمل الحكايات ..

   وكلمة فندلس اشتقها العرب من أسم قبائل الوندال الجرمانية التي اجتاحت أوروبا في القرن الخامس الميلادي واستقرت في السهل الجنوبي الأسباني وأعطته أسمها (واندلوس) .. وعربها العرب.. وكما جاء في كتاب “الروض المعطار” لعبد المنعم الخميري أن (الأندلس) أسم أطلقه المسلمون على شبه جزيرة أيبريا (ابارية) تعريبا لكلمة (فند ليشيا) التي كانت تطلق على الإقليم الروماني، المعروف بإقليم (باطقة) Baetica الذي احتلته قبائل الفندال الجرمانية ما يقرب من عشرين عاما، ويسميهم الحميري بالاندليش وبعد سقوط مملكة غرناطة، آخر معقل للإسلام في شبه الجزيرة، وانتهاء الحكم الإسلامي في أسبانيا سنة 1492م  أطلق الأسبان اسم  أندلوسيا وتلفظ بالإسبانية (اندالوثيا ) Andalucía  على الأقاليم الجنوبية الأسبانية ..

   ويذكر أبو بكر بن عبد الحكم، المعروف بابن النظام، إن الأندلس عند علماء أهله أندلسان: الأندلس الشرقي ما صبت أوديته إلى البحر الرومي –  البحر الأبيض المتوسط وكان يسمى أيضا ببحر الشام -، وذلك بين مرسبه إلى سرقسطة، ويضم بلنسية ودانية والسهلة.. والأندلس الغربي ما صبت أوديته إلى البحر الكبير المعروف بالبحر المحيط – المحيط الأطلسي، وكان يعرف لدى العرب ببحر الظلمات والاقيانوس- ، ويشمل اشبيلة وماردة واشبونة وشلب..  ويضيف بعض المؤرخين إلى هذا التقسيم قسما ثالثا، هو وسط الأندلس، وكان يضم من المدن العظمى، قرطبة وطليطلة وجيان والمرية ومالقة.

    وتاريخ الأندلس قديم للغاية، وأصل السكان القدامى مزيج من الكلت والأيبريين، وقد أسـس الفينيقيون في القرن العاشر قبل الميلاد، وعلى سواحل الأندلس، عدة مستعمرات، وأطلق اليونانيون على هذه السواحل أسم أيبر يا، ثم أطلق الاسم على شبه الجزيرة كلها.

    ومنذ القرن الخامس ق.م، خضعت الأندلس للقرطاجيين، وازدهرت مدينة قرطاجنة الجديدة في عهدهم، واتخذوها حاضرة لهم . وهكذا تلقت الأندلس، منذ سنة 535 ق.م حتى 205 ق.م، تأثيرين هامين أحدهما أوروبي وهو التأثير الكلتي واليوناني، والآخر أسيوي أفريقي أو سامي، وهو تأثير القرطاجيين، ثم تحول هذا التأثير إلى لاتيني أوروبي عند مجيء الرومان عام 205 قبل الميلاد.

   وفي عام 218 ق.م رسا القائد الروماني استبيون في ميناء أمبورياس، وأخذت جيوشه تكتسح الإقليم المجاور لهذا الميناء ما بين البرانس ونهر إبرة، وأرسلت روما إلى أسبانيا سنة 210 ق.م قوات كبيرة للقضاء على نفوذ القرطاجيين. ويعتبر عام 209 ق.م عاما حاسما في تاريخ أسبانيا القديم، إذ تحركت قوات استيبون من طركونة، يعاونها أسطول بحري اتجه إلى قرطاجنة، وسقطت العاصمة القرطاجية أمام الحصار البري والبحري الذي فرضه الرومان، وتبعتها سائر المدن الأندلسية، فسقطت قادش أخيرا عام 206 ق.م . وأسـس الرومان مدينة طالفة Italica وهو اسم مشتق من كلمة إيطاليا إشارة بالموطن الأصلي للرومان.

    أصبحت الأندلس إقليما رومانيا، نشروا فيه الحضارة الرومانية والقانون الروماني، وهكذا سادت نظم الرومان وخضع الأسبان لسلطانهم ونهج نظمهم،  واصطبغت أسبانيا من الوجهة الاجتماعية بالصبغة الرومانية المسيحية.

    ثم ضعفت الدولة الرومانية واجتاحتها قبائل جرمانية في موجات متتالية حتى استقر بها القوط الغربيون Visigoths واضمحلت الأندلس في السنوات الأولى من القرن الثامن الميلادي، إذ أن ملوكها القوط استنفذوا كل موارد البلاد، أما غالبية الشعب فقد كان يحيا حياة الفقر الشنيع، على نقيض ما كان يتمتع به النبلاء والأشراف.

أسبانيا قبل الفتح العربي

    كانت أسبانيا في الفترة الأخيرة من الحكم القوطي، تعاني ضعفا سياسيا واجتماعية جعلها فريسة سهلة  لأي فاتح يقبل عليها من الشمال أو الجنوب .. فإذا نظرنا إلى المجتمع الإسباني في ذلك الوقت، وجدناه منقسما إلى طبقات يسيطر بعضها على بعض سيطرة تامة:

طبقات المجتمع قبيل الفتح

أولا :الطبقة العليا المكونة من النبلاء: كان النظام السائد، في ذلك الوقت يتم بتعين  الملك بالانتخاب وليس بالوراثة ، فالملكية القوطية كانت ملكية انتخابية. وعلى الرغم من محاسن هذا النظام الذي يجعل الحكم للأصح، غير أنه أدى إلى وجود تنافس مستمر بين النبلاء للوصول إلى العرش، فكانت الدسائس والمؤامرات  والاغتيالات سمة النظام وذلك العصر والتي أضعفت من قوة الدولة .. وأفراد هذه الطبقة من النبلاء كان نفوذهم غير محدود كما كانت ممتلكاتهم شاسعة ومعفاة من الضرائب.

ثانيا: طبقة رجال الدين: وأفراد هذه الطبقة كان نفوذهم غير محدود كذلك، لأن الدين في العصور الوسطى كان مسيطرا على كل شيء تقريبا، إلى درجة أن العامة من الناس كانت تعتقد أن رجل الدين في استطاعته أن يدخله الجنة أو النار.  كما كان لرجال الدين نفوذ سياسي إلى جانب نفوذهم الروحي، حيث كان عليهم أن يعلنوا مبايعة ومباركة  الملك الجديد بعد انتخابه وتكليله بتاج الملك في الكاتدرائية أو الكنيسة، وهذا يشير ضمنا إلى اشتراكهم ومشاركتهم في انتخاب الملك. بالإضافة إلى أن ممتلكاتهم العقارية كانت معفاة من الضرائب  كما كان عليه  النبلاء تماما.

ثالثا: الطبقة الوسطى: وهذه الطبقة هي بالعادة  الطبقة العصامية الحرة المستنيرة، كثرتها كانت تدل على رخاء المجتمع، وقلتها تدل على اختلاله، فهي ميزان ترمومتر المجتمع . ففي الفترة الأخيرة من حكم الدولة القوطية يلاحظ أن هذه الطبقة الوسطى كانت قليلة العدد، مثقلة بالضرائب، وحالتها سيئة.

رابعا: الطبقة الدنيا: هذه الطبقة كانت اكثر عددا من الطبقات السابقة، وأقل حقوقا. ومعظم أفرادها  كانوا يعملون في مزارع النبلاء ورجال الدين، وهم مرتبطون بالأرض التي يشتغلون فيها، وبالتالي كانوا ملك لصاحبها، وينتقلون معها إذا  جرى بيع الأرض أو انتقلت إلى ملكية شخص آخر، لذلك كان أغلبية السكان عبيد للأرض.!

خامسا: طبقة اليهود: كان عدد اليهود كبيرا في أسبانيا، وكانوا يقومون بالأعمال المالية والحسابية في دواوين الحكومة، ولكنهم كانوا مكروهين بسبب اختلاف عقيدتهم، وبسبب تعاطيهم الربا، ولذا تعرضوا للكثير من الفتن والقلاقل والإضرابات، واضطروا  فيها إلى محاولة قلب نظام الحكم عن طريق الثورة حينا، وعن طريق المؤامرات حينا آخر.

    ويبدو آن اليهود في أسبانيا كانوا على اتصال بأبناء ملتهم في شمال أفريقيا، وعلى علم بأخبار الحرية الدينية التي كانوا يتمتعون بها في ظل الحكم الإسلامي، وقد دفعهم هذا إلى محاولة إسقاط الدولة القوطية والاستعانة بالعرب.

     هذه هي الحالة الاجتماعية في أسبانيا قبل الفتح الإسلامي، ونلاحظ فيها مجتمعا فاسدا مفككا غير متماسك ، كما هي الحالة السياسية التي مرت بها أسبانيا في الثلاثين سنة الأخيرة من حكمها، فنجد أن هي الأخرى كانت سيئة وغير مستقرة

    والواقع أن الصورة التي تمثل هذا العصر الأخير صورة مظلمة قاتمة، ففيه كثرت المشاكل التي تعانيها الدولة من مؤامرات ومصادمات حول العرش، وصراع بين العناصر الخاضعة للقوط، ولم يكن علاج هذه المشكلات متوفرٌا لضعف الملوك وتجردهم من مظاهر القوة والسلطان، وضعف الروح الحربية عند القوط، بعد أن تخلوا عن خشونتهم القديمة التي جعلت منهم رجال حرب، واستغرقوا في حياة الترف، في الوقت الذي نمت فيه السلطات الكنسية، وأصبح الأساقفة يسيّرون الدولة ويستبدون بشؤونها.

الملك غيطشة Witiza

   وعندما تولى غيطشة Witiza عرش البلاد في تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 700م بعد وفاة الملك اخيكا Egica :كانت أحوال البلاد قد بلغت غاية السوء، وحاول غيطشة أن يصلح من حال البلاد، وبالفعل كان القسم الأول من عصره يتسم بالهدوء واٌلإصلاح، فقد طبق العدل في أحكامه، وأفرج عن المسجونين، وسمح للمنفيين بالعودة إلى ديارهم، وتعويضهم عن أملاكهم المصادرة.. غير أنه لم يمض على ولايته سبع سنوات- كما ذكر عدد من المؤرخين – حتى عدل عن سياسته التي كانت سببا في محبة الشعب الإسباني له، فقد رخص للقساوسة بالزواج، وقتل فافلة Favila ونفى ابنه بلاي Pelayo الذي لعب دورا هاما في تأسيس مملكة اشتوريس Astorias في الشمال في بداية عصر الولاة المسلمين، كما أمر غيطشة بهدم أغلب حصون وأسوار إسبانيا، وسمح لليهود بالعودة إلى أسبانيا وممارسة شعائرهم الدينية دون تقييد ، بعد أن كانوا موضع اضطهاد أبيه أخيكا،كذلك سمل غيطشة عيني تيودوفريد Teodofredo واحد من أبناء الملك خندسفنت Khindasvinto (624-649م) وكان يقيم في قرطبة فاتهمه الملك غيطشة بالتآمر على العرش فعاقبه بسمل عينيه، فتقاعد في قصره بقرطبة.. وورد في مدونة (ايزادور الباجي) أن غيطشة خلع من العرش على أثر ثورة قام بها نفر من أنصار لذر يق Rodrigo ، ويرجح دون خواكين جيشوت اشتراك العناصر القوطية الرومانية في هذه الحركة، لأن لذر يق كان ابن تيودوفريد الذي سمل عينيه ويعتبر من سلالة الملك رسفنت Receswinto (653-672م)والذي ورد ذكره في كتاب نفح الطيب بأنه كان من أعاظمهم –أي أعاظم قومه- وخير من تنصر من ملوكهم، وأجمعوا على أنه لم يكن فيهم أعدل منه حكما ولا أرشد رأيا ولا أحسن سيرة ولا أجود تدبيرا، فكان الذي أصل النصرانية في مملكته ومضى أهلها على سنته إلى اليوم).وقد نشر العدل في البلاد وأزال التفرقة بين مختلف الأجناس المؤلفة للشعب الإسباني.. ويرى المؤرخ الدكتور السيد عبد العزيز سالم في كتابه (تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس) بالاستناد إلى ما أورده ابن القوطية، أنه يغلب على الظن أن مجلس طليطلة قد أفتى بخلع غيطشة عندما أقدم على توليه ابنه الطفل وقلة Achila العهد من بعده، وتنصيبه حاكما على ولايتي أربونة وطركونة تحت وصاية رخشندش Rechesindo أخي غيطشة. فكان هذا التصرف سببا في إثارة الطامعين في العرش من قواد الجيش وكبار النبلاء، لاستصغارهم لأبناء غيطشة الثلاثة، ويبدو أن قرار مجلس طليطلة اتفق صدوره قبل وفاة غيطشة مباشرة، وأحدث انقساما بين طبقات الشعب، فقامت الثورات في كل أنحاء ابارية، ومات غيطشة تاركا البلاد على فوهة بركان، فقد اختار الحزب المعارض لأولاد غيطشة، لذرق Rodrigo دوق باطقة وحاكمها بقرطبة ملكا على البلاد

   فبعد أن اغتصب لذر يق عرش الأندلس من وقلة Achila وقتل الملك رخشندش أمعن في مطاردة بيت غيطشة، وتتبع أنصاره بالأذى، فهبوا ضد هذا المغتصب المتسور، الذي انتزع الملك من البيت الشرعي لنفسه، وبدأت حركة استقلالية في أطراف البلاد، ظلت مستمرة حتى دخول المسلمين أرض الأندلس ، واشتعلت نيران الثورات في طليطلة وغيرها، وساءت حال البلاد في عهد لذر يق، إذ أرهق شعبه بالضرائب الفادحة لحاجته إلى المال لمواجهة أعدائه، ويبدو أنه اعتدى على ذخائر الكنائس القوطية ونفائسها التي كانت محفوظة في غرفتين مغلقتين بكنيستي سان بدرو وسان بابلو بطليطلة ونصحه القساوسة ورجال البلاط بعدم الإقدام على ذلك، فلم يصغ لنصحهم، ومن هنا جاءت الأسطورة التي رواها مؤرخو العرب، وهي أسطورة بيت الحكمة.

أسطورة بيت الحكمة

   تقول هذه الأسطورة أنه كان بطليطلة، دار ملك القوط، بيت مغلق يحرسه قوم من ثقاة القوط، وكانت العادة أنه إذا تولى من القوط ملك، زاد على البيت قفلا، فلما تولى لذر يق عزم على فتح الباب والاطلاع على ما بداخل هذا البيت، فأعظم ذلك أكابرهم، وتضرعوا إليه أن يكف عن ذلك، فأبى وظن أنه بيت مال، ففض الأقفال عنه، ودخله، فأصابه فارغا لا شيء فيه إلا المائدة التي كانت تعرف بمائدة سليمان، وتابوت عليه قفل، فأمر بفتحه، فألفاه فارغا، ليس فيه إلا شقة مدرجة، قد صورت فيها صور العرب على الخيول، وعليهم العمائم، متقلدي السيوف، متنكبى القسى، رافعي الرايات على الرماح، وفي أعلاها كتابة بالعجمية، فقرأت، فإذا هي تقول: إذا كسرت هذه الأقفال من هذا البيت، وفتح التابوت، ظهر ما فيه من هذه الصور، فإن الأمة المصورة فيه تغاب على الأندلس وتملكها… هذه الرواية ذكرها ابن القوطية القرطبي في كتابة تاريخ افتتاح الأندلس.وكذلك في كتاب نفح الطيب .

أبناء غيطشة

   وتعذر على ابن غيطشة، وقلة Achila أن يتوجه إلى العاصمة بعد وفاة أبيه، واضطرت أمه التي أرادت أن تضبط عليه ملك أبيه إلى الفرار هي وأخوية أرطباس Artavasdes والمند Olmundo  وعمه أبه Oppa أسقف اشبيلية ففروا من أسبانيا، والتمسوا سبل النجاة إلى أقصى الشمال، إلى جليقة، أما وقلة ففر  إلى سبته والتي كان يقوم يوليان النصراني بولايتها، وبمساعدته نجحوا في الاتصال بالعرب وحثوهم على فتح الأندلس . وهنا تتصادم وتختلف المصادر العربية والقشتالية في تدوين هذه الفترة وحثيثاتها وأساطيرها وحكاياتها

   ففي كتاب الدكتور حسين مؤنس (فجر الأندلس) يعتمد المؤلف على رواية للمؤرخ الأسباني سبستيان الشلمنقي، ولكن د. مؤنس لا يوافقه على الرأي القائل بأن أبناء غيطشة اتصلوا بالعرب قبل الفتح، ويعتقد انهم لم يحرضوا العرب  على فتح الأندلس. غير انه يناقض نفسه، إذ يعود إلى ترجيح اتصال أبناء الملك غيطشة بالعرب في بلاد المغرب. أما الدكتور السيد عبد العزيز سالم، فيرجح اتصال أبناء غيطشة وأنصاره على الأقل، بالعرب في بلاد المغرب، وذلك قبل عبور جيش طارق إلى الأندلس بفترة طويلة

    ويبدو أن أولاد غيطشة وأقرباءه اتصلوا بيليان أو جوليان Yulian حاكم سبته والتمسوا منه أن يتصل بالعرب، ويطلب منهم فتح الأندلس ، اعتقادا منهم بأن العرب الطارقون للأندلس لا حاجة لهم في استيطانه بعد فتحه، وأن مرادهم ملأ أيديهم من الغنائم ثم يخرجوا عنها لأصحابها.

يوليان حاكم سبته

    حين كانت جيوش الفتح العربي الإسلامي بقيادة موسى بن نصير تنطلق من العاصمة العربية في إفريقيا القيروان –أرض تونس اليوم- يمهد شمال إفريقيا ويطهرها من الأعداء منطقة بعد منطقة، وينشر الإسلام بين قبائل البربر على نطاق واسع، واستطاع أن يفتح جميع المدائن في إفريقية، وأن يذلل الحصون والقلاع، حتى قيل بحق إن حملات موسى في إفريقية كانت أشبه (بنزهات عسكرية)، ولكن إقليما واحدا استعصى عليه، هو إقليم طنجة وعاصمتها مدينة سبته المطلة على بحر الزقاق –مضيق جبل طارق اليوم- وكان يحكم إقليم طنجة شخصية غريبة غامضة سيحتل صاحبها، في تاريخ فتوحاتنا العربية، زاوية عريضة، ويطول الحديث والجدل حوله، ذلك هو يليان Yulian وهو من القوط وكانت تربطه صلات من الود الحميم مع الملك غيطشه، ويعتبر من ابرز أنصاره ، ويدين له بالطاعة والولاء ، منذ أن خرج يليان على بيزنطة واستقل بإقليم موريتانية الطنجية، .. سار موسى إلى إقليم طنجة سنة 89 هجرية 709 ميلادية، فلم يزل يقاتل قوات يليان ويهزمها ويفتح كل ما يصادفه، حتى أتى على جميع مدن الإقليم بما فيها مدينة طتجة المجاورة للعاصمة سبته، وانسحب يليان إلى عاصمته وامتنع بأسوارها الحصينة، فقاتله موسى قتالا عنيفا، ولكن سبته استطاعت لمنعتها الطبيعية ويقظة حاكمها، أن ترد عنها الهجمات، فأضطر موسى أن يرجع إلى طنجة  ويترك القائد الجديد طارق بن زياد في عامه ذاك 89 هجرية، قائد جبهة طنجة على راس ألفين من الجنود البربر، وكان على القائد الجديد أن ‘يغير على سبته وما حولها، قصد أن يسقط آخر ما استعصى على الجيش العربي من معاقل إفريقية كلها. .. ولكن فجأة هدأ رد فعل قوات يليان على الغارات التي كان يشنها جيش طارق..

حكاية ابنة يليان- فلورندة- أو  Cava

    ففي أثناء ذلك زعموا أن حادثا وقع وقتئذ عجل بالفتح، وكان عاملا في إقدام يليان على طلب العون من العرب في حماس غريب..فقد كان لـ”يليان” ابنة على حظ كبير من الجمال اسمها “فلورندة” وكان قد بعثها – شأنها في ذلك شأن غيرها من بنات الأمراء والنبلاء- إلى بلاط الملك بطليطلة، لتتأدب بآداب الملوك. فوقعت الفتاة موقعا حسنا في عيني الملك، ويقال إنه استكرهها على نفسها، فاحتالت على إبلاغ أبيها سرا بما أصابها .. فركب الأب بحر الزقاق من سبته، فوصل الأندلس وأقبل على الملك في قصره بطليطلة. فاستغرب الملك قدومه، وسأله:

–        ما جاء بك في هذا الوقت العصيب؟.

  فتعلل “‘يليان” بمرض زوجته الشديد، وأضاف:

–        وإنها لفي شوق إلى رؤية ابنتها “فلورندة” وتلهف على لقائها قبل أن تموت!.

فاستجاب “لذر يق” إلى رغبة “يليان” ، ورد إليه ابنته بعد أن توثق منها بالكتمان على أبيها، مجزلا لها وله العطاء.. فلما قام “يليان”ودعه الملك وأوصاه  قائلا:

–        إذا قدمت علينا في المرة القادمة، فاحمل إلي معك “الشذانًقات” – الصقور- ، التي لم تزل ‘تطرفنا بها، فإنها أحب جوارحنا لدينا..

فأجابه “يليان” وهو يكظم غيظه :

–        أيها الملك،وحق المسيح ، لئن بقيت لأدخلن عليك “شذانقات” ما دخل مثلها قط!! وكان يومئ بذلك إلى ما بيت من نية الاستعانة بالعرب على فتح الأندلس!.

    حول هذه الرواية، التي ذكرها ابن عبد الحكم في كتاب فتوح إفريقية والأندلس، وكذلك صاحب أخبار مجموعة ، والمقري في نفح الطيب  وابن القوطية القرطبي وغيرهم من المؤرخين العرب القدامى، يرى أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الإسكندرية الدكتور السيد عبد العزيز سالم، أنها قد تكون غير صحيحة، ويعتقد أنها مختلقة من ابتكار القصاص والإخباريين، ويقدم دليل على ذلك أن “يليان” لم بكن على علاقة طيبة بلذريق حتى يبعث إليه بابنته، ويشير أيضا إلى أن اسم فلورندة لم يرد في المدونات العربية أو المسيحية، ولكنه ظهر مكانه اسم (القحباء laCava) في مدونة بدرو ديل كورال Pedro del Coral المسماة Cronica del Rey D.Rodrigo وترجع إلى منتصف القرن الخامس عشر، ففيها ينسب المؤرخ اسم la Cava إلى ابنة يليان. وكان ميغيل دي لونا أول من ناقش الترجمة العربية لكلمة Cava سنة 1589م في بحثهHistoria Verdadera del Rey D. Rodrigo وذكر فيه أن هذه الفتاة فلورندة أطلق عليها العرب اسم القحباء la Cava وتعني المرأة السيئة، ومن ثم ورد اسم فلورندة في عدد كبير من الروايات الإسبانية المتأخرة، كما ورد في أشعار الرومانسيرو، وجاء في بعض هذه الأشعار : أن لذر يق شاهد فلورندة تستحم يوما في وادي تاجة بطليطلة، فأطلق على هذا الحمام منذ ذلك الحين اسم “حمام القحباء. Banio de la Cava. ويقول الدكتور سالم : حتى إذا افترضنا أن هذه التسمية صحيحة وتنطبق على الكلمة العربية، فإنها مع ذلك لا تصدق على ابنة يليان التي كانت ضحية للذريق الذي اعتدى عليها دون استجابة منها إليه، وبدليل أن كلمة Cava التي ينسبونها إلى ابنة يليان تتضمن في الإسبانية معان أخرى غير هذا المعنى الذي زعم مؤرخو إسبانيا أنها ترجمة للكلمة العربية (قحباء) .. ويبدو أن المؤرخين الأسبان كانوا يحملون في هذه التسمية على ابنة يليان لاعتقادهم الراسخ في أنها السبب في دخول العرب أرض إسبانيا !.

    والذي يهمنا من ذلك كله، أن يليان، كما تجمع المصادر العربية، قد توجه بنفسه إلى طارق بن زياد، القائد المرابط بجيشه جوار سبته ، وعرض عليه ‘مقترحه بفتح الأندلس، وأن يكون هو للعرب في ذلك دليلا..ولم يكن بد من أن يحيل الأمر إلى القائد العام في “القيروان”.. وقيل: أن يليان وموسى بن نصير قد اتصلا بعد ذلك – بالمراسلة – .. وقيل أيضا : إنهما تقابلا، حين دعا يليان موسى إليه، حيث فاوضه في سبته، أو على ظهر سفينة في البحر.. فقد كان يطمع في شرف الجهاد والفتح. وبرغم تلهفه على افتتاح الأندلس، لم يشأ أن يقحم المسلمين في مغامرة لا يعلم نتائجها إلا الله، فلم يكن قد وثق بعد بيليان، ثم أنه كان لا يمكن أن يتصرف في هذا المشروع الخطير وحده دون أن يستأذن الخليفة، فكتب من فوره إلى الخليفة الوليد ين عبد الملك بفتوحه في المغرب، وضمن رسالته ما ذكره يليان من تذليل الأمور وتهوينها على المسلمين،وتردد الوليد، وخاف على المسلمين مغبة مخاطرة كهذه في أراض مجهولة، وأمره بالا يغرر المسلمين في بحر شديد الأخوال.

   عمل موسى بنصيحة الخليفة، واختار أحد كبار قواده اسمه طريف بن مالك المعافرى، ويكنى أبا زرعة- ويبدو أن طريف كان عربي الأصل، وإن كان مؤرخو العرب يعدونه من البربر، فالحميرى يقول: فبعث موسى عند ذلك رجلا من مواليه من البربر اسمه طريف بن ملوك المعا فرى ويكنى أبا زرعة، كذلك يقول المقري نقلا عن الحجارى، ونقلا عن الكتاب الخزائني، وصاحب الاسم كما يرى الدكتور السيد عبد العزيز سالم ينتسب إلى معافر أو تخع لبيمنية، كما يسميه ابن خلدون، طريف بن مالك التخعي، إنه من المستبعد  أن يرسل موسى الطليعة الكشفية الأولى تحت قيادة رجل غير عربي – وطريف كان قائدا بارعا في فنون الحرب والقتال، فجعله موسى على رأس سرية مؤلفة من 500 مقاتل، منهم أربعمائة من المشاة، ومائة من الفرسان، وأعد لهم يليان سفنه الأربعة لعبور الزقاق، ونزل طريف بفرقته في جزيرة تعرف لاس بالوماس Isla de Las Palomas وتقف على مقربة من مدينة طريف الحالية، التي سميت باسمه Tarifa لنزوله فيها، وذلك في رمضان سنة 91هـ تموز (يوليو) سنة 710م. ومن هذا الموضع شن طريف ورجاله سلسلة من الغارات على الساحل الجنوبي للأندلس، المقابل لساحل مدينة سبته، فيما بين طريف والجزيرة الخضراء. وعاد طريف بفرقته سالما يجر وراءه الغنائم الكثيرة. فأنس موسى إلى يليان، ووثق فيه، واطمأنت نفسه إليه، واشتد عزمه على الفتح، وتلهفه على السير في هذه المغامرة.

العبور العظيم

    اختار موسى على الحملة التي أعدها لفتح الأندلس القائد طارق بن زياد، وأمره على سبعة آلاف رجل جلهم من البربر.. وقد اختلف مؤرخو العرب في اصل طارق، فذهب بعضهم إلى القول أنه كان فارسيا همذانيا، وذهب فريق آخر إلى انه كان بربريا من نفزة وذهب فريق ثالث إلى القول أنه كان عربيا من صدف، وأصح الآراء، القائل بأنه كان بربريا، إذ ذكروا أنه كان طويل القامة ضخم الهامة، أشقر اللون، وهي صفات تتوفر في شعب البربر.. ومن الغريب أن يكون الجيش الذي أعده ااحملة مكونا كله من البربر باستثناء ثلثمائة من العرب، وهذه هي المرة الأولى في تاريخ الفتوح العربية يتولى فيها جيش كامل من المغلوبين فتح قطر من الأقطار الكبرى كالأندلس، فكان من المنطقي أن يتولى بربري قيادة جيش كله من البربر ويدل هذا على أن بربر المغرب فد أسلموا، وحسن إسلامهم، وأصبحوا على هذا النحو يؤلفون القوة الكبرى التي اعتمد عليهم موسى بن نصير في فتح الأندلس عسكريا، كما أن البربر كانوا أكثر معرفة من العرب ببلاد الأندلس فالمغرب  والأندلس يؤلفان وحدة جغرافية وتاريخية في آن واحد، وقديما عبر هانيبال المجاز إلى إسبانيا مع جيوشه البربرية، وقد يكون موسى قد خاف على جيشه العربي من هذه المغامرة فآثر أن يجعل الطليعة الأولى من البربر، فلما استوثق من نجاح الفتح عبر المجاز بدوره على رأس جيش كثيف جله من العرب، وكان جيش طارق يتألف من سبعة آلاف مقاتل منهم ما يقرب من ثلاثمائة من العرب على رأسهم رجال سيكون لهم شأن كبير فيما بعد، منهم: عبد الملك بن أبي عامر المعافري، ومغيث الرومي مولى بن عبد الملك، وعلقمة اللخمي..

    بدأ العبور ، انطلاقا من ميناء طنجة، في يوم الاثنين الخامس من رجب سنة 92 هجرية 27 نيسان (أبريل) 711 ميلادية. ومع ضآلة عدد السفن وهي أربع، تلك التي يملكها “يليان” وربما أضيفت إليها قطع من الأسطول العربي الذي أنتجته دار الصناعة التي أنشئت في تونس، كان لا بد أن يتم نقل الجند فيها عبر بحر الزقاق، على دفعات .. فأخذت السفن تتردد ما بين شاطئي الزقاق تنقل الجنود إلى (جبل على، شط البحر، منيع) كما يقول المؤرخ العربي ابن عذارى.. ولعل سكان البلاد، ممن رأوا السفن من بعيد وهي تمخر البحر، قد ظنوا أنها محملة بالبضائع، كالعهد بها.. وأخذ المسلمون يتجمعون، خفية عن الأنظار، عند جبل سيعرف من الآن فصاعدا : (جبل الفتح) أو (جبل طارق).. وما كادت حشود المسلمين تتوافى في أدنى الجبل في شهر رجب نفسه، حتى بادر طارق إلى إنشاء قاعدة لجيشه، وأقام حول الجبل سورا سمي (سور العرب) للاحتماء به إذا حدث ما ليس بالحسبان..

إحراق السفن وخطبة طارق

   يميل بعض المؤرخين المحدثين إلى رواية مفادها أن طارقا قد عمد، بعد أن نقل جنوده، إلى إحراق السفن التي عبر بها بحر الزقاق، قطعا لكل أمل لدى جنوده في العودة إلى أفريقية وليدفعهم إلى الاستبسال في القتال، فقصة إحراق السفن مشكوك فيها ولم يوردها المؤرخين العرب القدماء..كما أن خطبته الشهيرة لم تكن بعد الوصول إلى بر الأندلس، بل جاءت عشية معركة وادي لكة، أولى المعارك الحاسمة التي خاضها جيش طارق بعد وصوله أرض الأندلس في 83 يوما، كما ورد حبر الخطبة في كتاب نفح الطيب، وقد نقل المقري نصها فذكر: (أنه قام في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حث المسلمين على الجهاد، ورغبهم ثم قال: أبها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر. وأعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم، وإن امتدت الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمرا، ذهبت ريحكم وتعوضت القلوب عن رعبها منكم الجراءة عليكم. فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من امركم بمناجزة هذا الطاغية . وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أحذركم أمرا أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطة أرخص متاعا فيها للنفوس. أبدأ بنفسي. واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلا، استمتعتم بالأرفه الألذ طويلا. فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفى من حظي. وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان، الرافلات في الدر والمرجان. وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك، أمير المؤمنين، من الأبطال عربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارا وأختانا، ثقة منه بارتياحكم للطعان، ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة.. أيها الناس، ما فعلت من شيء فافعلوا مثله، إن حملت فاحملوا، وإن وقفت فقفوا، ثم كونوا كهيئة رجل واحد في القتال. وإني عامد إلى طاغيتهم بحيث لا أنهيه حتى أخالطه وأمثل دونه. فإن قتلت، فلا تهنوا،ولا تحزنوا ، ولا تنازعوا، فتفشلوا وتذهب ريحكم، وتولوا الأدبار لعدوكم، فإذا أنتم بين قتيل وأسير، وهاأنذا حامل على العدو حتى أغشاه، فاحملوا بحملتي)..

 وإلى اللقاء

3 responses to “قراءات وحكايات من تاريخ الاندلس

  1. وين المصادر والمراجع ؟

أضف تعليق